فصل: (فرع: نذر شاة في ذمته أو عينها وذبح عنها بدنة أو بقرة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[باب العقيقة]

أصل العقيقة في اللغة: هو الشعر الذي يخلق على المولود، وجمعه: أعقة وعقائق.
قال امرؤ القيس:
أيا هند لا تنكحي بوهة ** عليه عقيقته أحسبا

و(البوهة): الأحمق، يريد أنه من حمقه أنه لم يحلق شعره الذي ولد وهو عليه. و(الأحسب): الشعر الأحمر الذي يضرب إلى البياض.
ثم سمت العرب ما يذبح عن الصبي يوم السابع عند حلق ذلك الشعر عقيقة؛ لأنهم يسمون الشيء باسم سببه، أو ما جاوره، كما سموا المرأة ظعينة، وإنما الظعينة هي الناقة التي تحمل عليها المرأة.
إذا ثبت هذا: فالعقيقة سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (ليست بسنة).
وقال الحسن البصري وداود: (هي واجبة).
دليلنا: ما روت أم كرز قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «عن الغلام شاتان
مكافئتان، وعن الجارية شاة» و «لا يضركم ذكرانا كن أم إناثا».
قال أبو داود: وروي: «شاتان مثلان» قال: وهو أصح، و «مكافئتان»، عبارة عن قوله: (مثلان).
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة». وأدنى حالة الأمر الندب إذا دل الدليل: أنه ليس بواجب.
ولأن الإطعام على النكاح سنة، والولد مقصود به، والفرح به أشد، فكان أولى باستحباب الإطعام له.
والدليل - على أنها ليست بواجبة -: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة فليفعل» فعلقه على المحبة، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه إطعام لحادث سرور، فلم يكن واجبا بالشرع، كالوليمة.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لو كان واجبا لوجب تفرقة لحمها على ذوي الحاجات، كالهدي والكفارات، فلما لم يجب ذلك دل على: أنها لا تجب كشاة اللحم.

.[مسألة:للغلام شاتان وللجارية شاة]

والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة.
وقال مالك: عن كل واحد شاة، رجلا كان أو جارية؟ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عق عن الحسن والحسين شاة شاة».
دليلنا: ما رويناه عن أم كرز وعائشة وعمرو بن شعيب، وما رووه نحمله على الجواز.

.[فرع: ما يجزئ في العقيقة وما يستحب عند ذبحها]

ولا يجزئ إلا الجذعة من الضأن أو الثنية من الإبل والبقر والمعز، سليمة من العيوب؛ لأنها إراقة دم بالشرع، فاعتبر فيه ما ذكرناه، كالأضحية.
والمستحب: أن يقول عند الذبح: باسم الله، اللهم منك وإليك، عقيقة فلان لما روت عائشة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك).
والمستحب: أن تفصل أعضاؤها، ولا تكسر من غير ضرورة؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جدولا، ولا يكسر عظم، ويأكل، ويطعم، ويتصدق منها، وذلك يوم السابع». ولأن ذلك أول ذبيحة، فاستحب أن لا يكسر تفاؤلا بسلامة أعضائه.
ويستحب أن يطبخ منها طبيخ حلو تفاؤلا بحلاوة أخلاقه.
قال المسعودي في "الإبانة"وقيل: يطبخ بالحموضة منه، وقيل: لا يطبخ بالحموضة.

.[مسألة:استحباب الأكل من العقيقة ويبعث بمرقها إلى الفقراء]

قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب أن يأكل من لحمها ويهدي ويتصدق؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقال القفال: لا يتخذ عليها دعوة، بل يطبخ، ويبعث بمرقها إلى الفقراء.

.[مسألة:استحباب العقيقة يوم السابع وما يصنع برأس المولود]

والسنة أن يكون ذلك يوم السابع؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن والحسين يوم السابع، وسماهما، وأمر أن يماط الأذى عن رؤوسهما». فإن قدمه على ذلك أو أخره جاز لأنه وجد بعد سببه.
ويستحب أن يحلق رأسه يوم السابع؛ لحديث عائشة، ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر؛ لما روي: عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القزع في الرأس».
ويستحب أن يتصدق بزنة شعره ذهبا أو ورقا؛ لما روي «عن فاطمة: أنها قالت: يا رسول الله أعق عن الحسن؟ فقال: «احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة».
ويستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران، ويكره أن يلطخ رأسه بدم العقيقة.
وقال الحسن: يطلى رأسه بدم العقيقة.
وقال قتادة: يؤخذ منها صوفة فيستقبل بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ المولود حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ذلك ويحلق.
دليلنا: ما روى يزيد بن عبد المزني، عن أبيه: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم».
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونها على رأس المولود، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وأمرهم: أن يجعلوا مكانه خلوقا».
قال الشافعي: (ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أميطوا عنه الأذى» والشعر والدم هو الأذى، فكيف ينهى عن الأذى ويأمر به؟).

.[مسألة:استحباب تحنيك المولود والأذان والتسمية وتهنئة الوالد]

ويستحب أن يحنك المولود بشيء حلو؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر».
ويستحب أن يهنأ الوالد بالولد.
وروي: أن رجلا جاء إلى الحسن وعنده رجل قد رزق مولودا، فقال له: نهنئك الفارس، فقال له الحسن: وما يدريك أفارس هو أم حمار؟ فقال: كيف نقول؟ قال: (قل: بارك الله لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره).
ويستحب أن يؤذن في أذن المولود؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، كالأذان في الصلاة».
وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقة، ثم أذن في أذنه اليمين، وأقام في أذنه اليسار، وسماه.
قال الطبري: ويستحب أن يقرأ في أذنه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
ويستحب أن يسمي بـ: عبد الله، وعبد الرحمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» فإن سماه باسم قبيح غير ذلك الاسم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير اسم عاصية، وقال: «أنت جميلة». وبالله التوفيق.

.[باب النذر]

الأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].
فمدحهم على الوفاء بالنذر.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»
إذا ثبت هذا: فإنه لا يصح النذر إلا من مسلم بالغ عاقل، فإن نذر الكافر لم يصح نذره، ولم يلزمه الوفاء به إذا أسلم.
ومن أصحابنا من قال: يصح، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أوف بنذرك».
والأول أصح؛ لأنه معنى وضع لإيجاب القربة، فلم يصح من الكافر، كالإحرام بالحج. وأما الخبر: فنحمله على الاستحباب.
ولا يصح النذر من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه إيجاب حق بالقول، فلم يصح من الصبي والمجنون كالضمان. وفيه احتراز من إيجاب الزكاة في ماله، وأرش جنايته، ونفقة أقاربه في ماله.

.[مسألة:لا صحة للنذر إلا بالقول]

ولا يصح النذر إلا بالقول، وهو أن يقول: علي لله كذا، أو علي كذا وإن لم يقل لله؛ لأن القربة لا تكون إلا لله. وهذا في غير الهدي والأضحية، وهل يفتقر النذر في الهدي والأضحية إلى القول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في الأضحية.

.[مسألة:لزوم النذر]

ويلزم بالنذر جميع الطاعات؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» فإن نذر أن يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل من لا يجب قتله لم يجب نذره؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وإن نذر أن يذبح ولده أو أباه أو نفسه لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (إذا نذر أن يذبح عبده أو والده لم يصح، ولم يلزمه شيء، وإن نذر أن يذبح ولده أو نفسه لزمه شاة).
وعن أحمد روايتان:
أحدهما: (يلزمه ذبح كبش).
والثانية: (تلزمه كفارة يمين)، وهذه الرواية مذهب سعيد بن جبير، وتعلقوا بما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من نذر ذبح ولده فعليه شاة).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» وهذا أولى من قول ابن عباس.

.[فرع: في نذر صوم يوم محرم أو فعل مباح]

وإن نذر أن يصوم يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد نذره، ويلزمه أن يصوم في غير هذه الأيام، فإن صام فيها أجزأه).
دليلنا: أنه نذر صوم وقت لا يصح فيه الصوم بحال، فلم ينعقد نذره، ولم يلزمه لأجله شيء، كما لو نذر صوم الليل.
وإن نذرت المرأة صوم أيام حيضها لم ينعقد نذرها، ولم يلزمها لأجله شيء.
وقال الربيع: يلزمها كفارة يمين - وهو مذهب أحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر
كفارة يمين» قال أصحابنا: وهذا من كيس الربيع.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله»، والخبر محمول على نذر اللجاج. وإن نذر فعل شيء من المباحات، كالأكل والشرب والنوم وما أشبهه لم يلزمه بذلك شيء.
وقال أحمد: (ينعقد نذره، ويكون بالخيار: بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين)
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف في الشمس، ولا يتكلم، ويصوم، فقال: «مروه فليقعد، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه».

.[مسألة:نذر التبرر واللجاج]

وإن نذر طاعة فهو على ضربين: نذر تبرر وقربة، ونذر لجاج وغضب.
فأما نذر التبرر والقربة: فينظر فيه: فإن علقه على إصابة خير أو دفع شر، بأن يقول: إن رزقني الله مالا، أو ولدا، أو علما، أو شفى الله مريضي، أو نجاني الله من الحبس وما أشبهه، فعلي لله أن أصوم، أو أتصدق، وما أشبههما من القرب فهذا نذر صحيح، فإن رزقه الله ما رجا، أو دفع عنه ما خاف لزمه الوفاء بما نذره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77]
فذمهم الله على ترك الوفاء بنذرهم، وعاقبهم على تركه.
وروى ابن عباس: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله إن أمي أو أختي ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم، فماتت قبل أن تصوم، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصوم عنها».
وإن لم يعلق ذلك على شيء، بأن قال ابتداء: علي لله أن أصوم، أو أتصدق فهل يلزمه بذلك شيء؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، وأبي بكر الصيرفي -: أنه لا يلزمه شيء، ولكن يستحب له الوفاء به؛ لأن ما يلزم الإنسان نفسه من الحقوق حقان: حق للآدمي وحق لله، ثم وجدنا أن حق الآدمي يلزم عليه إذا كان بعوض، وهو عقود المعاوضات، وأما ما كان بغير عوض، كالهبة: لا يلزم عليه بالقول من غير قبض، فكذلك حقوق الله تعالى.
والوجه الثاني: يلزمه النذر، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ولم يفرق. ولأنه ألزم نفسه قربة ما، لا على وجه اللجاج والغضب، فلزمه الوفاء به، كما لو نذر أضحية فإنهما وافقا على ذلك.
وأما نذر اللجاج والغضب: فبأن ينذر طاعة، ويخرج نذره مخرج اليمين بأن يمنع نفسه من فعل شيء، أو يلزم نفسه شيئا، مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي كذا، ويريد منع نفسه من كلامه، أو يقول: إن فعلت كذا فلله علي كذا، أو إن لم أفعله فمالي صدقة أو في سبيل الله، فإن لم يكن المنذور حجا ولا عمرة فالمشهور من المذهب: أنه إذا وجد الكلام أو ما علقه فهو بالخيار: بين الوفاء بما نذره، وبين أن يكفر كفارة يمين.
وحكى الطبري في "العدة": أن الشيخ أبا حامد حكى للشافعي قولا آخر: (أنه يلزمه كفارة يمين وله إسقاطها، بأن يفي بما نذر إن كان أكثر من الكفارة، وإن كان أقل لم يكن له ذلك)، وهو قول عطاء، كما نقول فيمن ملك خمسا من الإبل: إنه يلزمه إخراج شاة، وله إسقاط تلك الشاة بإخراج بعير منها. قال الطبري: وهذا أجري على القياس.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه الوفاء بما نذر). وقد قيل: إنه قول ثالث للشافعي، وليس بشيء.
دليلنا - للقول الأول -: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالمشي، أو بالهدي، أو جعل ماله في سبيل الله، أو في المساكين، أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين». ولأنه يشبه اليمين من حيث إنه قصد منع نفسه من فعل شيء، أو إلزامها فعل شيء، ويشبه النذر من حيث إنه ألزم نفسه قربة في ذمته، فخير بين موجبيهما، وهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين». وإن كان المنذور في اللجاج والغضب حجا أو عمرة، وقلنا بالمشهور: أن المنذور لا يتحتم عليه فعله فهل يتحتم عليه فعل الحج والعمرة، أو يكون مخيرا بين فعلهما وبين كفارة اليمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد في "التعليق" قولين:
أحدهما: يلزمه الوفاء به ويتحتم عليه؛ لأن الحج لما لزمه بالدخول فيه لزمه بالنذر.
والثاني: لا يتحتم عليه فعله، بل له أن يكفر كفارة يمين: لما رويناه في حديث عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالمشي فكفارته كفارة يمين».
وأما قول الأول: إن الحج يلزم بالدخول فيبطل عليه بالعتق؟ فإنه يلزمه بالدخول، ثم لا يلزمه في اللجاج والغضب.

.[مسألة:حكم النذر بجميع المال وبعتق رقبة]

إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بجميع ماله.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (يلزمه أن يتصدق بثلث ماله).
دليلنا: أن اسم المال يعم جميع المال، فلزمه الوفاء به.
فإن نذر عتق رقبة وأطلق قال الشافعي: (فأي رقبة أعتق أجزأه).
فمن أصحابنا من قال: تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة، مؤمنة كانت أو كافرة، وهو ظاهر النص؛ لأن اسم الرقبة يقع عليها.
ومنهم من قال: لا يجزئه إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة؛ لأن مطلق النذر محمول على المعهود في الشرع، وتأول هذا القائل كلام الشافعي أنه أراد: مما يجزئ في الكفارة.

.[فرع: نذر عتق رقبة معينة]

وإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه إعتاقها، ولا يزول ملكه عنها بنفس النذر، فإن أراد بيعها، أو إبدالها بغيرها لم يجز؛ لأنها تعينت للعتق. وإن تلفت الرقبة أو أتلفها مالكها لم يلزمه إبدالها؛ لأن العتق حق للرقبة، وقد تلفت. وإن أتلفها أجنبي لزمه دفع القيمة إلى المالك، ولا يلزمه صرف ذلك إلى رقبة أخرى؛ لما ذكرناه من المعنى، بخلاف الهدي، فإن الحق فيه للفقراء وهم موجودون.

.[مسألة:لزوم ما سماه وعينه بالنذر وحكم المطلق]

إذا سمى هديا بعينه، مثل أن يقول: علي لله أن أهدي هذا الثوب أو هذا التمر أو هذه الشاة لزمه ما سماه وعينه، جيدا كان أو رديئا؛ لأنه قد ألزم نفسه ذلك.
وإن قال: علي لله أن أهدي وأطلق ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يهدي ما شاء مما يتمول، حتى لو أهدى زبيبة أو تمرة أجزأه) لأنه يقع عليه اسم الهدي لغة وشرعا: أما اللغة: فإنه يقال: أهدى فلان إلى فلان دجاجة أو بيضة.
وأما الشرع: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال في الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة - إلى أن قال -: ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة».
والثاني: قال في الجديد: (لا يجزئه إلا هدي من النعم: إما جذع من الضأن، أو ثني من الإبل أو البقر أو المعز) - وبه قال أحمد وأبو حنيفة - لأن إطلاق الهدي في الشرع إنما ينصرف إلى ذلك، بدليل: أن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فأطلق ذلك، والمراد به ما ذكرناه، وكذلك المطلق في النذر.
فإن قال: علي لله أن أهدي بقرة أو شاة، فإن قلنا بالقول الأول أجزأه ما يقع عليه اسم البقرة والشاة. وإن قلنا بالثاني لم يجزه إلا ما يجزي في الأضحية.
وإن قال: علي لله أن أهدي الهدي لزمه الهدي المعهود في الشرع قولا واحدا؛ لأن الألف واللام للعهد، والعهد في الشرع ذلك.

.[فرع: نذر شاة في ذمته أو عينها وذبح عنها بدنة أو بقرة]

وإن نذر أن يهدي شاة في ذمته، فإن ذبح شاة كان جميعها واجبا، ولا يجوز له أكل شيء منها، وإن ذبح عنها بدنة أو بقرة أجزأه؛ لأنها تجزئ عن سبع من الغنم، وهل يكون الجميع واجبا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الجميع واجب، فلا يجوز له أكل شيء منها؛ لأنه مخير بينهما، فأيهما فعل كان واجبا.
والثاني: أن الواجب سبعها لا غير؛ لأنها تقوم مقام سبع من الغنم.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: يلزمه أن يتصدق بسبعها، وله أن يأكل الباقي.
وإن نذر أن يهدي شاة بعينها لزمه أن يذبحها، فلو أراد أن يذبح عنها بقرة أو بدنة فالذي يقتضي المذهب: أن ذلك لا يجزئه؛ لأنها قد تعينت للقربة، فلا يجوز العدول عنها إلى غيرها، كما نقول في العتق.

.[مسألة:نذر بدنة وأطلق أو عينها بالنية]

قال الشافعي: (ومن نذر بدنة لم يجزه إلا ثني أو ثنية، والخصي يجزي، فإذا لم يجد بدنة فبقرة ثنية، وإذا لم يجد فسبع من الغنم تجزئ ضحايا. وإن كانت نيته على بدنة من الإبل لم يجزه من البقر والغنم إلا بقيمتها).
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: إذا نذر بدنة فإن أطلق ولم ينو حيوانا بعينه فإنه يخرج بدنة، وهي: الثنية من الإبل التي استكملت خمس سنين، أو ثنيا ذكرا من الإبل، وهو الذي استكمل خمس سنين، ويجزئه الخصي؛ لأنه أرطب لحما وأوفر.
فإن لم يجد بدنة أجزأته ثنية من البقر، فإن لم يجد ثنية من البقر أجزأه سبع من الغنم، تجزئ كل واحدة في الأضحية لأن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، وقد تقرر في الشرع: أن البقرة تقوم مقام البدنة، وأن السبع من الغنم تقوم مقام البقرة عند عدمها، هذا هو المنصوص.
ومن أصحابنا من خرج وجها آخر: أنه مخير: بين البدنة والبقرة، والسبع من الغنم؛ لأن للشافعي قولا آخر - حكاه أبو إسحاق فيمن لزمه بدنة بالوطء في الحج - (أنه مخير بينها، وبين البقرة، والسبع من الغنم).
وأما صاحب "العدة": فقال هاهنا: هذا إذا قلنا: إن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، فأما إذا قلنا بقوله القديم: (وأنه يجزئه ما يقع عليه الاسم) فلا يجزئه البقرة ولا الغنم هاهنا؛ لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع على هذين الجنسين.
قلت: وهذا تفصيل حسن.
وأما إذا نوى - بقوله: بدنة - البدنة من الإبل فقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: فإن كانت البدنة موجودة لزمه إخراجها، ولم تجزه البقرة ولا الغنم وجها واحدا؛ لأن نيته قطعت جواز العدول إلى غيرها، فتعينت عليه، وإن كانت البدنة معدومة ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز الانتقال إلى البقرة، بل تكون في ذمته إلى أن يجدها؛ لأنها قد تعينت عليه بالنذر.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يجزئه الانتقال إلى البقرة بالقيمة؛ لأنه وإن عين البدنة فإنه يتعين عليه هدي شرعي، والهدي الشرعي له بدل.
فعلى هذا: يقابل بين قيمة البدنة وقيمة البقرة، فإن كانت قيمتهما سواء، أو كانت قيمة البقرة أكثر أخرج البقرة وأجزأه. وإن كانت قيمة البقرة أقل لزمه إخراج البقرة ولزمه أن يتصدق على المساكين بفضل قيمة البدنة على البقرة؛ لأنه ألزم نفسه أمرين مقصودين: النحر، وتفرقة اللحم، فلزمه الإتيان بأكثرهما.
والفرق بين هذه، وبين التي قبلها حيث لم تعتبر القيمة في الأولى؛ لأنه إذا أطلق البدنة انصرفت إلى الإبل بمعهود الشرع، ومعهود الشرع فيها: أن تقوم البقرة فيها مقامها من غير تقويم. وإذا نوى البدنة من الإبل فقد وجبت بإيجابه، فإذا أعوزته كان عليه أكثر الأمرين: مما يقوم مقامها في الشرع، أو قيمتها، كما نقول فيه - إذا أتلف الهدي المعين -: أن عليه أكثر الأمرين: من قيمته، أو هدي مثله.